"التلصص" و حياة اخري تراها من ثقب الابواب المغلقة
"التلصص" و حياة اخري تراها من ثقب الابواب المغلقة
اخر رواية لصنع الله ابراهيم هي "التلصص" قرأتها منذ اسبوعين ..للوهلة الاولي اندهشت لانها طريقة جديدة للكاتب الكبير صنع الله ابراهيم لكن بعد ذلك تندمج في طريقة السرد الجديدة علي ما تعودناه من روايات صنع الله عنيفة احيانا كوردة و مقبضة كيومياته في سجن الواحات فهذة المرة يتناول اسلوبا جديدا للسرد بسيط سهل ممتنع لانه يصف احداث و مشاهدات علي لسان طفل صغير فأتت العبارات بسيطة التراكيب و المعاني عميقة المعني قصيرة موجزة مقتضبة احيانا ..و الرواية ليست الا سرد لاحداث يومية في صورتها الخارجية لكنك تدرك ابعادا اخري عندما تتعمق و تترك هذا الصبي الصغير يأخذك معه لعالمه ..فاترك له يدك ليقودك..
البطل هو الصبي الصغير ذي التسعة او العشرة اعوام –تبدو و كأنها السيرة الذاتية للكاتب نفسه- تدور الاحداث كلها علي لسان الصبي الذي يروي تفاصيل الحياة اليومية مع والده المسن الذي تشعر انه جده لفارق السن الكبير بينهم ..تبدأ الرواية بأقحامك مباشرة في الاحداث لتشترك فيها منذ الصفحة الاولي مع الطفل و كأنك تعلم خلجات و خلفيات هذة الحياة.. .فيشعرك صنع الله انك تستمع الي طفل بالفعل فلا يمهد لك ..فالاطفال لا يعرفون المقدمات مثلنا بل يقحمونك تماما في الحدث ..العبارات جاءت قصيرة بسيطة التراكيب و قريبة المعاني –فهي عبارات طفل- يبرز في كل لحظة تفاصيل جديدة تكشف لك غموض بعض اجزاء حياة الصبي فهو يبدأ اولا بالحديث عن ابيه و يصفه لك و يوضح في سرده المتواصل انهم يقيمون في حارة بسيطة و يصف سكانها ثم يتجه للمنزل و يصفه هو منزل بسيط فقير من حجرة معيشة و حجرة نوم و مطبخ و غرفة كرار و كنيف "معادل دورة المياه" و تري تحاشي الطفل المستمر للكلام عن الكنيف و حتي انه يتحاشي وجوده ذاته مكررا في اجزاء عدة عبارة "اتجنب النظر للكنيف" لتدرك انه يحمل خوفا مبهما بداخله منه و كراهية قد تكون بسبب اظلامه الدائم و انبعاث رائحة كريهة منه علي الدوام ..يحكي لنا الطفل احداث يومه البسيطة في مكوناتها لكنها تعرض لك صورة فوتوغرافية بالالوان هذة المرة لمصر في هذة الفترة التاريخية –النصف الثاني من الاربعينيات- و الحالة الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية بصورة جذابة لا تشعر معها انك تستمع لدرس تاريخي
--تبدأ شيئا فشيئا تدرك معاناة الااب في الرعاية باينه الصغير و بحثه المستمر عن مربية او مدبرة منزل كي تتولي شئون الخدمة و الطهي و التنظيف ليجعلك تتساءل عن الام و اين هي؟ حيث لا يأتي ذكرها الا من خلال تقنية " الفلاش باك" التي يعرضها الطفل بعفوية الاطفال حيث يذكره مشهد او شيئ رأه بذكري له مع والدته فيروها بداخل السياق بسلاسة مسنخدما الكاتب اللون الداكن ليبرز هذة الذكري و هي تقنية مال اليها الكاتب و -سبق ان استخدم الكثير من التقنيات الكتابية فمثلا كان يدس بين الاحداث قصصات الصحف في رواية اخري مثل اللجنة- ..تبدأ في التساؤل عن وجود الام و يبدأ يقين لديك في النمو انها قد ماتت
يستمر الصبي في السرد لتدرك انهم فقراء رغم ان اهل الحارة يلقبون الاب ب "خليل بيه" و لكن الاب يجاهد كيلا يشعر ابنه باي ققر او عوز و تندهش حين تعلم ان للصبي اخوة اخرين اكبر كثيرا منه في السن من ام اخري فاخته غير الشقيقة "نبيلة" لديها اطفال في مثل عمره و له اخ أخر لم يذكر سوي اسمه بالرواية.. و تري تناقض المستوي المعيشي بين وصفه لمنزل الاب و منزل الابنة فالابنة التي يزورونها كل عيد تحيا في مستوي اجتماعي اعلي منهم و تراه من خلال وصف الطفل للمنزل و مقارنته بمنزلهم المتواضع و ملابس ابناء اخته مثلا تري ذلك في عبارات " تفرش لنا مرتبة وثيرة علي الارض تغطيها بملاءة نظيفة لها رائحة مميزة ...ليست متعجنة متخشبة كمخداتنا" ...تبتسم حين تسمع الاب بعد الزيارة عند العودة يخبر ابنه " بيتنا اخسن بيت في الدنيا"
اكثر ما ستلاحظه في الرواية هي هواية الطفل الصغير و هي كما هو واضح من العنوان " التلصص" فهو يقتل وقت فراغه الكبير و يتسلي بالتلصص علي الجميع و احيانا يدفعه والده للتلصص علي الخادمات ..فتراه تارة يتلصص علي جارتهم في السكن في الغرفة المجاورة "ماما تحية " كما يلقبها الطفل يمضي معها اوقاتا مرحة احيانا و تعتني به فيحبها و لكن لا يمنعه ذلك من التلصص عليها ايضا! تارة اخري تجده يتلصص علي اخته حين يزورونها في منزلها فيبدأ في التجوال بانحاء الشقة و يتلصص علي الغرف المغلقة و منها يوضح لك الكاتب ما يفعله الناس خلف الابواب المغلقة فزوج الاخت منحرف يراه الطفل يهرول خلف الخادمة و يلهث ليعاكسها بكل بذاءة ثم يعود علي هيئته الوقور ليكمل جلسته معهم! فان صنع الله يريدك ان تكتشف من تلقاء نفسك زيف تلك الحياة و زيف الناس و نفاقهم دون مباشرة منه بل يكتفي بسرد ما يراه الطفل خلف الابواب المغلقة لتعلم طبيعة الحياة المزدوجة التي نحياها
يستمر الوصف و يعود الصبي لسرد احداث يومهم فتراه يشدك لتشهد معهم رمضان و مظاهره في هذة الحقبة و العيد لتدرك حقا ان هناك علاقة قوية تجمع بين الاب و ابنه ..فالاب هو محور حياة الطفل التي من حوله تدور الافلاك الاخري و الحياة بتفاصيلها لا تعتبر سوي انعكاس لوجود الاب ..تدرك ايضا ان الاب يحب ابنه كثيرا لكنه يمل صحبته المستمرة احيانا حيث لا يترك له لحظة فراغ و ووحدة ينعم بها
تبدأ الامور في الوضوح شيئا فشيئا تدرك ان الاب تزوج مرة اخري سرا في اثناء مرض زوجته الاولي و خاف من اعلان الامر كيلا يغضب الابناء و بمت الزوجة "ام نبيلة" اعلن الاب زواجه و وجود اخ غير شقيق لهم فقاطعه الابناء الا نبيلة لكنها ايضا لم تتقبل الامر و هذا يوضح المعاملة الجافة لاخيها غيرالشقيق .. و يتضح سر اختلاف مستوي المعيشة هكذا فالاب كان ميسور الحال فيما مضي لكنه اصابته كبوة و ازمات مالية متتالية اتت علي ثروته تراه من خلال عبارات مثل " بعد يا خليل ما كنت وردة في ايد الناس يشموك بقيت يا خليل زي الطبيخ حمض دلقوك" ..تري اكثر لحظة حميمة بين الاب و ابنه لحظة الغارات و قنابل الالمان تهوي علي البيوت
يستمر السرد و تري الاحداث السياسية التي يروها الصبي و يسمعها علي لسان اصدقاء ابيه في المقهي فتري بينهم تباين الثقافات و الشخصيات فتجد هناك من تزوج من جنية و تراهم يتكلمون عن الامر باعتيادية و كأنه امر يحدث و لاغرابة فيه سوي ان العنوسة انتشرت و كان امامه من بنات الانس الكثيرات! يبرز لك صنع الله بعض الاحداث السياسية لتلك الفترة مثل حرب فلسطين و الاستعداد لها و اراء شلة اصدقاء المقهي و اعتراضهم ان تخوض مصر حرب لا ناقة لهم فيها و لا جمل و الحكومة و النحاس باشا و الاحتلال و الاحكام العرفية و حزب الوفد و تنمو الاحداث مع الايام لتشهد هزيمة مصر في حرب فلسطين و غضب الشعب و فشل البعثة الرياضية في اولمبياد لندن و محاكمة السادات في تهمة اغتيال امين عثمان ...الي جانب وصف الصبي لاعلانات الافلام التي يراها في الجرائد و ماركات السيارات و الترام و ركابه و ما يدور فيه و طريقة الملبس لتشعر انك انتقلت لتلك الفترة لتري بنفسك مشاهد من الحياة الاجتماعية و السياسية و تلمس انتقاد الكاتب لما كان يدور بطريقة لا تستطيع ان تمسك بها
هناك بعض الفقرات التي قد تحمل صدمة للقارئ اثناء القراءة لكنها عادة صنع الله فهو لا يداري و لا يتلاعب بالالفاظ بل يسمي الاشياء باسمائها حتي و ان بدت بها بعض الفجاجة ..يتوالي الحكي لتصل في نهاية الرواية لنقطة التنوير فتدرك ان ام الطفل لم تمت و لكنها نزيلة احدي المصحات النفسية بعد ان يوضح معاناة الاب مع جنونها و كيف انها كانت تحبسه في منزله لانه جاسوس الماني! و تتوالي المفاجأت عندما يعود الصبي باكرا ليتلصص علي ابيه فتجده في الفراش مع الخادمة لتكون صدمة في حياة الطفل لكن رغم توقعك ان تؤثر هذة المفاجأة علي الطفل و مجريات الاحداث من بعدها الا انه ما يلبث ان يستعيد السرد بطريقة روتينية كما بدأه و كأن ما حدث لم يعلق بذاكرته او لعله تناساه ..تنتهي احداث الرواية بانسيابية مشهد الاب و هو يساعد ابنه في اداء واجبه كما يفعل دائما لتستمر الحياة كما هي
الرواية قد تحمل تفاصيل كثيرة يراها البعض اثقلت الوضع و ابطأت الايقاع لكنها بلا شك طريقة جديدة لصنع الله ابراهيم ..اتت التلصص علي صورتها البسيطة ظاهريا كسرد يومي لاحداث يومية لكنها بساطة المنع ..فالعبارات بليغة تحمل لك المعني بسهولة لكن دون ابتذال علي لسان طفل لم يتعلم التكلف في التعبير بعد ..فرغم انه يروي في بعض الاحيان مأسي كجنون امه و زيارته لها في المصحة ..و الفارق الاجتماعي الذي يلمسه بينهم و بين اخته و ملابس اطفالها مقارنة بملابسه الا انك لا تستشعر نبرة غضب او حقد في صوت الطفل ..فقط هو يصف لك و يحكي دون اي انفعال بل يترك لك الحلبة خالية كي تبدي انت انفعالاتك ..فتتعاطف و تكره و تبغض و تشمئز مما يراه الصبي في تلصصه الذي يشجعه احيانا عليه الاب لتعرف زيف النفوس و كم الاقنعة التي تتهاوي خلف الابواب المغلقة و تري بنفسك دنيا اخري و عالم اخر قابع هناك تراه من ثقب الباب
التلصص تعتبر في شكلها الظاهري لقطة من حياة الصبي –الكاتب- لكنها رواية نفسية في الاساس و شاهد دقيق علي حقبة من تاريخ مصر
اخر رواية لصنع الله ابراهيم هي "التلصص" قرأتها منذ اسبوعين ..للوهلة الاولي اندهشت لانها طريقة جديدة للكاتب الكبير صنع الله ابراهيم لكن بعد ذلك تندمج في طريقة السرد الجديدة علي ما تعودناه من روايات صنع الله عنيفة احيانا كوردة و مقبضة كيومياته في سجن الواحات فهذة المرة يتناول اسلوبا جديدا للسرد بسيط سهل ممتنع لانه يصف احداث و مشاهدات علي لسان طفل صغير فأتت العبارات بسيطة التراكيب و المعاني عميقة المعني قصيرة موجزة مقتضبة احيانا ..و الرواية ليست الا سرد لاحداث يومية في صورتها الخارجية لكنك تدرك ابعادا اخري عندما تتعمق و تترك هذا الصبي الصغير يأخذك معه لعالمه ..فاترك له يدك ليقودك..
البطل هو الصبي الصغير ذي التسعة او العشرة اعوام –تبدو و كأنها السيرة الذاتية للكاتب نفسه- تدور الاحداث كلها علي لسان الصبي الذي يروي تفاصيل الحياة اليومية مع والده المسن الذي تشعر انه جده لفارق السن الكبير بينهم ..تبدأ الرواية بأقحامك مباشرة في الاحداث لتشترك فيها منذ الصفحة الاولي مع الطفل و كأنك تعلم خلجات و خلفيات هذة الحياة.. .فيشعرك صنع الله انك تستمع الي طفل بالفعل فلا يمهد لك ..فالاطفال لا يعرفون المقدمات مثلنا بل يقحمونك تماما في الحدث ..العبارات جاءت قصيرة بسيطة التراكيب و قريبة المعاني –فهي عبارات طفل- يبرز في كل لحظة تفاصيل جديدة تكشف لك غموض بعض اجزاء حياة الصبي فهو يبدأ اولا بالحديث عن ابيه و يصفه لك و يوضح في سرده المتواصل انهم يقيمون في حارة بسيطة و يصف سكانها ثم يتجه للمنزل و يصفه هو منزل بسيط فقير من حجرة معيشة و حجرة نوم و مطبخ و غرفة كرار و كنيف "معادل دورة المياه" و تري تحاشي الطفل المستمر للكلام عن الكنيف و حتي انه يتحاشي وجوده ذاته مكررا في اجزاء عدة عبارة "اتجنب النظر للكنيف" لتدرك انه يحمل خوفا مبهما بداخله منه و كراهية قد تكون بسبب اظلامه الدائم و انبعاث رائحة كريهة منه علي الدوام ..يحكي لنا الطفل احداث يومه البسيطة في مكوناتها لكنها تعرض لك صورة فوتوغرافية بالالوان هذة المرة لمصر في هذة الفترة التاريخية –النصف الثاني من الاربعينيات- و الحالة الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية بصورة جذابة لا تشعر معها انك تستمع لدرس تاريخي
--تبدأ شيئا فشيئا تدرك معاناة الااب في الرعاية باينه الصغير و بحثه المستمر عن مربية او مدبرة منزل كي تتولي شئون الخدمة و الطهي و التنظيف ليجعلك تتساءل عن الام و اين هي؟ حيث لا يأتي ذكرها الا من خلال تقنية " الفلاش باك" التي يعرضها الطفل بعفوية الاطفال حيث يذكره مشهد او شيئ رأه بذكري له مع والدته فيروها بداخل السياق بسلاسة مسنخدما الكاتب اللون الداكن ليبرز هذة الذكري و هي تقنية مال اليها الكاتب و -سبق ان استخدم الكثير من التقنيات الكتابية فمثلا كان يدس بين الاحداث قصصات الصحف في رواية اخري مثل اللجنة- ..تبدأ في التساؤل عن وجود الام و يبدأ يقين لديك في النمو انها قد ماتت
يستمر الصبي في السرد لتدرك انهم فقراء رغم ان اهل الحارة يلقبون الاب ب "خليل بيه" و لكن الاب يجاهد كيلا يشعر ابنه باي ققر او عوز و تندهش حين تعلم ان للصبي اخوة اخرين اكبر كثيرا منه في السن من ام اخري فاخته غير الشقيقة "نبيلة" لديها اطفال في مثل عمره و له اخ أخر لم يذكر سوي اسمه بالرواية.. و تري تناقض المستوي المعيشي بين وصفه لمنزل الاب و منزل الابنة فالابنة التي يزورونها كل عيد تحيا في مستوي اجتماعي اعلي منهم و تراه من خلال وصف الطفل للمنزل و مقارنته بمنزلهم المتواضع و ملابس ابناء اخته مثلا تري ذلك في عبارات " تفرش لنا مرتبة وثيرة علي الارض تغطيها بملاءة نظيفة لها رائحة مميزة ...ليست متعجنة متخشبة كمخداتنا" ...تبتسم حين تسمع الاب بعد الزيارة عند العودة يخبر ابنه " بيتنا اخسن بيت في الدنيا"
اكثر ما ستلاحظه في الرواية هي هواية الطفل الصغير و هي كما هو واضح من العنوان " التلصص" فهو يقتل وقت فراغه الكبير و يتسلي بالتلصص علي الجميع و احيانا يدفعه والده للتلصص علي الخادمات ..فتراه تارة يتلصص علي جارتهم في السكن في الغرفة المجاورة "ماما تحية " كما يلقبها الطفل يمضي معها اوقاتا مرحة احيانا و تعتني به فيحبها و لكن لا يمنعه ذلك من التلصص عليها ايضا! تارة اخري تجده يتلصص علي اخته حين يزورونها في منزلها فيبدأ في التجوال بانحاء الشقة و يتلصص علي الغرف المغلقة و منها يوضح لك الكاتب ما يفعله الناس خلف الابواب المغلقة فزوج الاخت منحرف يراه الطفل يهرول خلف الخادمة و يلهث ليعاكسها بكل بذاءة ثم يعود علي هيئته الوقور ليكمل جلسته معهم! فان صنع الله يريدك ان تكتشف من تلقاء نفسك زيف تلك الحياة و زيف الناس و نفاقهم دون مباشرة منه بل يكتفي بسرد ما يراه الطفل خلف الابواب المغلقة لتعلم طبيعة الحياة المزدوجة التي نحياها
يستمر الوصف و يعود الصبي لسرد احداث يومهم فتراه يشدك لتشهد معهم رمضان و مظاهره في هذة الحقبة و العيد لتدرك حقا ان هناك علاقة قوية تجمع بين الاب و ابنه ..فالاب هو محور حياة الطفل التي من حوله تدور الافلاك الاخري و الحياة بتفاصيلها لا تعتبر سوي انعكاس لوجود الاب ..تدرك ايضا ان الاب يحب ابنه كثيرا لكنه يمل صحبته المستمرة احيانا حيث لا يترك له لحظة فراغ و ووحدة ينعم بها
تبدأ الامور في الوضوح شيئا فشيئا تدرك ان الاب تزوج مرة اخري سرا في اثناء مرض زوجته الاولي و خاف من اعلان الامر كيلا يغضب الابناء و بمت الزوجة "ام نبيلة" اعلن الاب زواجه و وجود اخ غير شقيق لهم فقاطعه الابناء الا نبيلة لكنها ايضا لم تتقبل الامر و هذا يوضح المعاملة الجافة لاخيها غيرالشقيق .. و يتضح سر اختلاف مستوي المعيشة هكذا فالاب كان ميسور الحال فيما مضي لكنه اصابته كبوة و ازمات مالية متتالية اتت علي ثروته تراه من خلال عبارات مثل " بعد يا خليل ما كنت وردة في ايد الناس يشموك بقيت يا خليل زي الطبيخ حمض دلقوك" ..تري اكثر لحظة حميمة بين الاب و ابنه لحظة الغارات و قنابل الالمان تهوي علي البيوت
يستمر السرد و تري الاحداث السياسية التي يروها الصبي و يسمعها علي لسان اصدقاء ابيه في المقهي فتري بينهم تباين الثقافات و الشخصيات فتجد هناك من تزوج من جنية و تراهم يتكلمون عن الامر باعتيادية و كأنه امر يحدث و لاغرابة فيه سوي ان العنوسة انتشرت و كان امامه من بنات الانس الكثيرات! يبرز لك صنع الله بعض الاحداث السياسية لتلك الفترة مثل حرب فلسطين و الاستعداد لها و اراء شلة اصدقاء المقهي و اعتراضهم ان تخوض مصر حرب لا ناقة لهم فيها و لا جمل و الحكومة و النحاس باشا و الاحتلال و الاحكام العرفية و حزب الوفد و تنمو الاحداث مع الايام لتشهد هزيمة مصر في حرب فلسطين و غضب الشعب و فشل البعثة الرياضية في اولمبياد لندن و محاكمة السادات في تهمة اغتيال امين عثمان ...الي جانب وصف الصبي لاعلانات الافلام التي يراها في الجرائد و ماركات السيارات و الترام و ركابه و ما يدور فيه و طريقة الملبس لتشعر انك انتقلت لتلك الفترة لتري بنفسك مشاهد من الحياة الاجتماعية و السياسية و تلمس انتقاد الكاتب لما كان يدور بطريقة لا تستطيع ان تمسك بها
هناك بعض الفقرات التي قد تحمل صدمة للقارئ اثناء القراءة لكنها عادة صنع الله فهو لا يداري و لا يتلاعب بالالفاظ بل يسمي الاشياء باسمائها حتي و ان بدت بها بعض الفجاجة ..يتوالي الحكي لتصل في نهاية الرواية لنقطة التنوير فتدرك ان ام الطفل لم تمت و لكنها نزيلة احدي المصحات النفسية بعد ان يوضح معاناة الاب مع جنونها و كيف انها كانت تحبسه في منزله لانه جاسوس الماني! و تتوالي المفاجأت عندما يعود الصبي باكرا ليتلصص علي ابيه فتجده في الفراش مع الخادمة لتكون صدمة في حياة الطفل لكن رغم توقعك ان تؤثر هذة المفاجأة علي الطفل و مجريات الاحداث من بعدها الا انه ما يلبث ان يستعيد السرد بطريقة روتينية كما بدأه و كأن ما حدث لم يعلق بذاكرته او لعله تناساه ..تنتهي احداث الرواية بانسيابية مشهد الاب و هو يساعد ابنه في اداء واجبه كما يفعل دائما لتستمر الحياة كما هي
الرواية قد تحمل تفاصيل كثيرة يراها البعض اثقلت الوضع و ابطأت الايقاع لكنها بلا شك طريقة جديدة لصنع الله ابراهيم ..اتت التلصص علي صورتها البسيطة ظاهريا كسرد يومي لاحداث يومية لكنها بساطة المنع ..فالعبارات بليغة تحمل لك المعني بسهولة لكن دون ابتذال علي لسان طفل لم يتعلم التكلف في التعبير بعد ..فرغم انه يروي في بعض الاحيان مأسي كجنون امه و زيارته لها في المصحة ..و الفارق الاجتماعي الذي يلمسه بينهم و بين اخته و ملابس اطفالها مقارنة بملابسه الا انك لا تستشعر نبرة غضب او حقد في صوت الطفل ..فقط هو يصف لك و يحكي دون اي انفعال بل يترك لك الحلبة خالية كي تبدي انت انفعالاتك ..فتتعاطف و تكره و تبغض و تشمئز مما يراه الصبي في تلصصه الذي يشجعه احيانا عليه الاب لتعرف زيف النفوس و كم الاقنعة التي تتهاوي خلف الابواب المغلقة و تري بنفسك دنيا اخري و عالم اخر قابع هناك تراه من ثقب الباب
التلصص تعتبر في شكلها الظاهري لقطة من حياة الصبي –الكاتب- لكنها رواية نفسية في الاساس و شاهد دقيق علي حقبة من تاريخ مصر