كلام

الشارع دة رحنا فيه المدرسة ..اللي باقي منه باقي و اللي مش باقي اتنسي كنسوه الكناسين بالمكنسة بدموعي في لحظة اسي انا برضة كمان نسيت صلاح جاهين

Name:
Location: cairo, Egypt

Tuesday, February 24, 2009

فنجان قهوة

فنجان قهوة
لا احب القهوة..فهي بالنسبة لي دواء يشرب اثناء ايام المذاكرة الكئيبة لاستجداء خلايا عقلك للسهر قليلا و لشحذ طاقة متبعثرة هنا او هناك لتطيل قدرتك علي الاستذكار لعل ذلك يقذف لك بطوق النجاة وقت الامتحانات..وعلي عكس الجميع ما ان اشرب القهوة حتي يصيبني نعاس شديد و لا انقطع عن التثاؤب ! اي انها تأتي معي بنتيجة عكسية تماما !
و كأنعكاس شرطي ما ان اسمع كلمة قهوة ينتابني احساسان يتفوقان علي بعضهما البعض في التعاسة ! فهي صارت مرادفا لسرادقات العزاء او للاختبارات و ايام المذاكرة الكئيبة.. و كلاهما مناسبتان زادتا في تعقيد العلاقة بيني و بين هذا المشروب ! لكني و الغريب في الامر رغم عدم حبي للقهوة الا اني احب فناجين القهوة! ..فهي ضئيلة الحجم ..رقيقة الشكل ذات تفاصيل منمنمة للغاية..
فعندما اراها تجلس فوق الطبق الصغير في خجل بجوار فناجين الشاي اشعر كأنها اطفال صغار شقية تشب علي اطراف اصابعها بجوار الكبار كما كنا نفعل في طفولتنا ..ومن شدة عشقي لها كنت اشرب بها العصائر و المياة! فطالما لا اريد شرب القهوة لابد من استغلال هذة الفناجين الانيقة ذات اللمسة الطفولية..و احيانا كثيرة اجد تشابها في العلاقات الانسانية مع الاكواب و الفناجين و ادوات المائدة!
فبعيدا عن العلاقات التي تقترب في شكلها من السكاكين الحادة و السواطير .وبعيدا عن العلاقات التي تشبه اطباق الجيلي كعلاقات باردة هلامية لا معلم لها ولا شكل محدد..هناك علاقات تشبه فناجين القهوة الصغيرة هذة بشكلها الرقيق الزاخر بأناقة رغم بساطته و الذي يشع منها دفء خفي لا تدري مبعثه ..ورغم صغر حجم الفنجان الا انه في بعض الاحيان من شدة دفئه يغمرك بكل المشاعر التي انت بحاجة لها و التي تتطور مع الزمن و يزداد حجمها او يقل حسب الاجواء المصاحبة..
كان هذا اليوم جميلا ..من الايام ذات اللحظات النادرة التي يشملك فيها دفء يذيب كل الثلوج المتراكمة حول صدرك و يحرر مشاعرك التي ظلت سجينة فترة طويلة عن عمد و قصد منك في بعض الاحيان ..و كان يوما شتويا باردا مما ساهم في اضافة المزيد من البرودة الخارجية حول قلبي.. و كعادتنا في تناول طعام الغداء متأخرا ..اي بعد صلاة المغرب!..اتناول طبق الشوربة الساخن الحافل بالليمون و كنت افرك اصابع قدمي داخل الخف الصوفي الطفولي طمعا في مزيد من الدفء ..وبينما عقلي يجاهد كي اجد موضوعا ملائما ناضجا للحديث بدلا من حواراتي المملة السخيفة اليومية و التي يسمعها ابي بصدر رحب و بابتسامة دبلوماسية جميلة.وانا اكاد اشعر انه اصابه الصداع الشديد من ثرثرتي التي لا تحمل اي معني !
..ران الصمت للحظات طويلة محرجة و كأنه ضيف ثالث انضم الي المائدة معنا و له الحق في التعبير عن وجوده ..وبدأ يتحرك لساني داخل فمي مستغيثا من كم الافكار المتتابعة و التي لا تجد طريقة مناسبة للتعبير عنها شرعت بفتح مجالا للحوار غريبا بعض الشيئ لكنه افضي الي موضوع اكثررحابة ..لكنه ظل من المواضيع المعتادة و التي تقال و تسمعها في كل لحظة من اليوم ..ثم اتت سيرة احد المعارف الذي التحق بالجيش وملأ الدنيا صراخا و عويلا لذلك ! ..ولما كنت اعرف عشق ابي للفترة التي امضاها بالجيش فحمسته للحديث عنها و بالفعل بدأ الحديث في التتابع و الذكريات الجميلة في الانسكاب
..جلست صامتة اتأمل ملامح وجه ابي بفرحة شديدة لرؤيته شارد الذهن حيث الجبهة و حرب اكتوبر حيث كان ضابط وقتها و هو يروي لي ذكرياته آنذاك ..يروي لي عن تدريبات ما قبل الحرب و الوحدة التي استلمها لعلاج الجرحي ..يروي تنقله بين المحافظات في الشهور ما قبل الحرب بدءا من الصعيد الي وجه بحري الي البحر الاحمر ..وحتي مرسي علم و السلوم..وزاد الجو حماسة حين بدأ في سرد ذكرياته عن الحرب ذاتها و كيف انه كان يمضي وقته في المخبأ تستقبل وحدته عشرات الجرحي كل دقيقة و رغم عدم قرب وحدته من الجبهة حيث السخونة الشديدة الا ان صواريخ العدو الاسرائيلي كان لا ينقطع سقوطها عليهم ..حيث يرتج المخبأ و تسقط المحاليل ثم يعودون الي عملهم من جديد بعد انتهاء الغارة..لا يروي ابي الكثير من تفاصيل الحرب نفسها لكنه يحكي لي عن اصدقائه الذين عرفهم هناك وقت الحرب ..منهم من عاد معه ومنهم من استشهد..
تتابع القصص الانسانية عن تلك اللحظات النادرة التي عاشها و التي دفعت بالدموع الي عيناي من شدة روعة هذة التجارب الانسانية الثرية..يروي عن بعض حكايات العساكر المضحكة..ويوم خرجوا جميعا لاصطياد غزال بعد ان ملوا العدس و الطعام المريع الذي يطهونه بأنفسهم! يجرون خلف الغزال المسكين بالسيارات كأفلام اكشن رديئة الاخراج! ثم طعمه المرّ الذي كان من اسوأ ما يكون! و كأنه عقاب لهم علي ما ارتكبوه بحق هذا الغزال الوديع
ثم اندهش حين يروي ابي انه كان يربي حيوانا اليفا بالمعسكر! و هذا بالطبع مستحيل في الجيش و خاصة اثناء الحرب..ثم ما تلبث دهشتي ان تتلاشي لتتحول الي ضحكة عالية حين ادرك كينونة هذا الحيوان الاليف الوديع الذي يحكي عنه ابي بكل حب و اشتياق ..انه الورل!!
وهو لمن لا يعرفه من فصيلة الزواحف عبارة عن تمساح صغير يعيش في الصحراء! وهو موجود بحديقة الحيوان في بيت الزواحف لمن يرغب في القاء نظرة علي هذا الاليف الوديع! وامام دهشتي و ضحكي اوضح ابي انه كان في منتهي الطيبة و كان لا يأكل سوي العشب و بواقي الطعام ..وكان يسير خلف ابي في كل مكان بالمعسكر و حتي اثناء نومه يزحف تحت الفراش لينام اسفله!
استرجع شكل الورل في حديقة الحيوان وملامح وجهه المخيفة فيزداد ضحكي عندما اتخيل ان هذا كان حيوان ابي الاليف وقت الحرب! ..تمر الدقائق مسرعة و انا اشعر بدفء روحي لامثيل له ..تزداد ضحكاتي الواحدة تلو الاخري لبعض المواقف المضحكة ..وينقبض صدري حين يتذكر ابي ذكري مؤلمة لاحد زملائه الذين استشهدوا
يمر الوقت سريعا و ينهض ابي مسرعا لتأخره علي موعده ..اظل في مكاني علي مائدة الطعام ..واشعر بحسد بالغ لهذا الجيل الذي ينتمي له ابي..فلقد عايش تجارب مذهلة لا تراها سوي علي شاشة التلفاز او في صفحات الكتب ..تنقلب هذة الغيرة الي شعور بالامتنان لا حد له لتلك الدقائق النادرة التي مرت سريعا..واشعر بسعادة غامرة تجتاحني لتهزني بعنف من الداخل عندما استرجع ملامح ابي المبتسمة و هي شاردة هناك ..حيث المعسكر و زملائه و ..الورل الاليف!
انظر الي طبقي الذي لم امسه و رغم ذلك لا اشعر بالجوع علي الاطلاق..بردت سخونة الشوربة لكنها انتقلت الي داخلي ..اذابت برودة الشتاء و الجليد المتراكم حول قلبي ..يشعر قلبي بامتنان لهذة اللحظات فيعلن ذلك بدقات متناغمة سريعة تجوب حجراته الاربع و تصيب عضلاته و صماماته بالجنون!
ارفع الاطباق من علي المائدة و اتأمل فناجين القهوة الصغيرة التي شاركتنا الحديث داخل البوفيه ..يزداد حبي لها و اشعر ان رغم حجمها الضئيل الا انها صارت تحمل دفئا يفوق حجم اناء الشوربة الساخن بأكمله!