كلام

الشارع دة رحنا فيه المدرسة ..اللي باقي منه باقي و اللي مش باقي اتنسي كنسوه الكناسين بالمكنسة بدموعي في لحظة اسي انا برضة كمان نسيت صلاح جاهين

Name:
Location: cairo, Egypt

Sunday, March 14, 2010

يعني إيه سعادتك؟!

"يعني ايه سعادتك؟!!"
جاءوا حاملين فئوسهم الحادة..نعم..اتوا منذ الصباح الباكر لشارعنا و في قلوبهم نية الغدر ..اتوا بقلوب مليئة بالقسوة و العتاد القاطعة ..بوجوههم التي تحمل رهبة في النفوس و عيونهم التي تحمل شرا كامنا مستترا ..كنت اتوقع مجيئهم في ذلك الوقت فهذا موعدهم الذي لم يخلفوه ..منذ الصباح الباكر ظللت متيقظة منتبهة لكل خطوة في شارعنا الهادئ حتي رأيتهم من بعيد آتين بخطواتهم الثقيلة المتمهلة الواثقة المتوعدة..
لا اتحدث عن فرقة نازية و لا عن مجموعة من افراد تشكيل عصابي ما..انما اتحدث عن رجال البلدية المخولين كل عام بتقليم الاشجار في شارعنا و من يجاوره من شوارع!..و لكنهم اشد فتكا و بأسا من اي قوة عسكرية اخري ..فعمارتنا في شارع هادئ كانت اولي العمائر التي بنيت..حيث بناها جدي لامي ليقطن بها ابناؤه و بها افتتحت والدتي عيادتها الطبية للاطفال..اي ان الشارع يحمل رائحة عمر مديد لعائلتنا و ذكريات لا تمحي..ورغم التطورات التي تحدث علي الحي و ما كانت تؤكده امي-رحمها الله- و يؤكده ابي في كل لحظة ان الحي لم يكن بهذا الازدحام و الضجيج و كل هذة الابراج العالية و ان الطرقات كانت برحة تحمل علي جوانبها الفيلات ذات الحدائق..وانا اومئ برأسي ايجابا سعيدة بما اسمع عن هذا الزمن الغابر!
لكن شارعنا كان بعيدا الي حد كبير عن كل هذا الضجيج ظل صفين من العمائر القصيرة ذات الادوار الست و التي اصطفت امامها الاشجار تراها من اول الشارع ..وهذا ما كان يملؤني بالحب لشارعنا خاصة في الصباح عندما تبدأ العصافير في الاستيقاظ و تنطلق في الزقزقة و ضجيجها المحبب من خلال اعشاشها الكثيفة بين غصون الاشجار..لكن كما هو الحال دائما لابد ممن ينغص عليك حياتك و هم رجال البلدية المعنيون بتقليم الاشجار ..وضع تحت كلمة تقليم هذة الف خط ..فليس الامر تشذيب للاشجار و الفروع اثائرة ليعطونها مظهرا جميلا بل التقليم لديهم يعني قطع او كسر و حلق تام للشجر ليصبح علي الزيرو!
حاولنا بشتي الطرق نخبرهم اننا لا نريد احد يقلم الاشجار و اننا سنقوم بها بمعرفتنا لكنهم ابوا حيثانها اوامر الحي ..و بصعوبة اقنعناهم ان يجعلوا هذة المجزرة شتاءا اذ تفتق ذهنهم عن القيام به في الصيف ليحرموا سكان الشارع من الشجر و ظلها الرطب في اكثر الاوقات حرارة و لهيبا! و هوكما تري حس انساني لا مثيل له!..اما ما عجزنا عن افهامهم اياه بشتي الطرق هو كيف يزيلون الفروع الزائدة دون احالة الشجر لعصيان غليظة يرتجف ما تبقي من اوراق قليلة من الفزع بعد المجزرة التي تعرضت لها عائلاتهم في هذا العدوان الغاشم!ففي اخر المرات ايقظت ابي مبكرا فور مجيئهم و اخذ يحاول افهام الرجل انه يريد ان يقلم الشجر بجمال علي هيئة مربع او دائرة و كدت اضحك و انا اري نظرات الرجل المندهشة مرددا "يعني ايه جمال سعادتك؟!".وكما هو معتاد اشار له مطمئنا ليذهب للعمل و اتم عمله في خلق "الجمال" الذي اردناه مع كافة اشجار الشارع!
..وكل يوم استيقظ لاشرب الشاي بلبن صباحا و اشاهد شارعنا من النافذة فاضحك حيث يبدو من اعلي كرأس ابن البخيل الذي اصر علي حلقه كيلا يذهب للحلاق فبدا مشوها مجروحا!و احزن عندما افتقد صوت العصافير الذي انتقلت من شارعنا و احسب عدد الشهور التي تحتاجها الاشجار لتنمو من جديد و يعود الامر لما كان عليه من بهاء
و ايقنت حينها انه ليس خطأ الرجل فقط بل هي ثقافة عامة..فلم يعد هناك ما يسمي بالجمال و تذوقه ..طغت ثقافة العشوائية علي كل شيئ في حياتنا .ولو تأملت القاهرة و المدن كلها في مصر لوجدتها لوحة تعبر عن العشوائية و الفوضي القبيحة..الاحياء العشوائية صارت ظاهرة خرجت عن التحكم و امتدت للاحياء الراقية كذلك ..فتجد ابراج عالية مجاورة لمنازل صغيرة و تجد شارعا يمتد ثم اذ فجأة ظهرت في وسطه عمارة لتغلقه!
ناهيك عن تشويه كل المباني المتعلقة بالماضي الجميل الذي كان يحمل روح الجمال و الاتقان بين طيات معماره الراقي فلا تجد فيللا من هذا الزمن الا و علاها الاهمال لتتحول لبرج سكني قبيح..و الجميع يتعلل ان الحالة الاقتصادية القاسية لا تسمح بترف تذوق الجمال مع انه لا دخل لذلك بالحالة الاقتصادية بتاتا!..فبلدان افقر منا لكن سكانها مازالوا قادرين علي ايجاد الجمال و خلقه بينهم و حولهم..و هذا بالعكس فاذا زاد الفقر الحياة قتامة فلابد ان نجد لها مخرجا كي لا تسقط الحياة بكل تفاصيلها في مستنقع الظلام المادي و النفسي ايضا..فالامر ليس مكلفا و يمكن لكل فرد خلق نظافة وجمال بسيطا لكنه يمتد اثره في النفوس ليعينها علي تحمل كل القبح الخارجي..ولكن ما ايقنته حقا انه لم يعد فقط عدم الرغبة او عدم وجود البال الرائق لتذوق الجمال بل لقد تطور الامر حيث اصبحت كلمة الجمال نفسها لا تجد لها معني داخلنا و لا يفهمها احد ..تماما كنظرة الرجل الذي يحمل الفأس عما نقصد بكلمة جمال!
فلقد انمحت الكلمة تماما من النفوس فقط كل ما يفهمه ان عليه ان يضرب الاغصان بهذة الفأس لينهي عمله و يشرب كوب الشاي!..فما الذي يريده هؤلاء السكان بعباراتهم الغامضة هذة؟!..وهذة الثقافة الهدامة تشربتها النفوس جيدا صغارها و كبارها ..لا تجد الكثيرون يبدون امتعاضا لو وجدوا الخدوش و الكلام بالدهان الاسود علي الجدران بل ان العيون باتت لا تلاحظها اساسا!.وما علاقة الحالة الاقتصادية بالنظافة ..اذ صار لا يعتبر القاء مخلفات بالشارع امرا مرفوضا و مذموما بل ان الشارع اصلا المكان الاصلح لالقاء المخلفات!..وتجدها تحدث لا شعوريا بدءا بمن يقذف بقايا الطعام من نافذة سيارته و هو سائر الي ربة البيت التي تلقي باكياس القمامة من النافذة او تلك التي تضعها بلطف علي اول الشارع فيتبعها الباقون!..او الهول الذي تراه علي ضفاف نهر النيل الذي تحول لونه للسواد الكثيف
فمسألة التفرقة بين القبح و الجمال لم تعد نسبية بل صارت معدومة اساسا! و لا وجود للكلمتين الا في سؤال التضاد باختبار اللغة العربية!..اما لو سألت احدهم ان يتذوق الجمال و يفهمه سيرد ممتعضا هازئا " يعني ايه جمال سيادتك؟!"